سورة الكهف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


العضد العضو من الإنسان وغيره معروف وفيه لغتان، فتح العين وضم الضاد وإسكانها وفتحها وضم العين والضاد وإسكان الضاد، ويستعمل في العون والنصير. قال الزجاج: والإعضاد التقوّي وطلب المعونة يقال: اعتضدت بفلان استعنت به. الموبق المهلك يقال: وبق يوبق وبقاً ووبق يبق وبوقاً إذا هلك فهو وابق، وأوبقته ذنوبه أهلكته.
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ بئس للظالمين بدلاً ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً}.
ذكروا في ارتباط هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بمجالسة الفقراء وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم، وذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم طردهم عنه وذلك لما جبلوا عليه من التكبر والتكثر بالأموال والأولاد وشرف الأصل والنسب، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر والافتخار بالأصل الذي خلق منه وهذا الذي ذكروه في الإرتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين، وإما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا والذي يظهر في ارتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم واتخاذ شركاء مع الله ناسب ذكر إبليس والنهي عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله تبعيداً عن المعاصي، وعن امتثال ما يوسوس به. وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أم منقطع، وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل سورة البقرة فأغني عن إعادته، والظاهر من هذه الآية أنه ليس من الملائكة وإنما هو من الجن. قال قتادة: الجن حي من الملائكة خلقوا من نار السموم. وقال شهر بن حوشب: هو من الجن الذين ظفرت بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء. وقال الحسن وغيره: هو أول الجن وبداءتهم كآدم في الإنس. وقالت فرقة: كان إبليس وقبيله جناً لكن الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس. وقال الزمخشري: كان من الجن كلام مستأنف جارٍ مجري التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال: ما له لم يسجد فقيل {كان من الجن ففسق عن أمر ربه} والفاء للتسبيب أيضاً جعل كونه من الجن سبباً في فسقه، يعني إنه لو كان ملكاً كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله لأن الملائكة معصومون ألبتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس كما قال: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} وهذا الكلام المعترض تعمد من الله عز وعلا لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم، فما أبعد البون بين ما تعمده الله وبين قول من ضادّه فزعم أنه كان ملكاً ورئيساً على الملائكة فعصى فلُعن ومُسخ شيطاناً، ثم وركه على ابن عباس انتهى.
والظاهر أن معنى {ففسق عن أمر ربه} فخرج عما أمره ربه به من السجود. قال رؤبة:
يهوين في نجد وغوراً غائراً *** فواسقاً عن قصدها حوائرا
وقيل: {ففسق} صار فاسقاً كافراً بسبب أمر ربه الذي هو قوله {اسجدوا لآدم} حيث لم يمتثله. قيل: ويحتمل أن يكون المعنى {ففسق} بأمر ربه أي بمشيئته وقضائه لأن المشيئة يطلق عليها أمر كما تقول: فعلت ذلك عن أمرك أي بحسب مرادك، والهمزة في {أفتتخذونه} للتوبيخ والإنكار والتعجب أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان تتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عداوته لكم تتخذونه ولياً. وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر وهو يخطب {أفتتخذونه وذريته} بفتح الذال، والظاهر أن لإبليس ذرية وقال بذلك قوم منهم قتادة والشعبي وابن زيد والضحاك والأعمش. قال قتادة: ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم. وقال الشعبي: لا يكون ذرية إلاّ من زوجة. وقال ابن زيد: إن الله قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها، فليس يولد لولد آدم ولد إلاّ ولد معه شيطان يقرن به. وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم: ألك شيطان؟ قال: «نعم ألا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم» وسمي الضحاك وغيره من ذرية إبليس جماعة الله أعلم بصحة ذلك، وكذلك ذكروا كيفيات في وطئه وإنساله الله أعلم بذلك، وذهب قوم إلى أنه ليس لإبليس ولد وإنما الشياطين هم الذين يعينونه على بلوغ مقاصده، والمخصوص بالذم محذوف أي {بئس الظالمين بدلاً} من الله إبليس وذريته وقال {للظالمين} لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم إبليس وذريته، وهذا نفس الظالم لأنه وضع الشيء في غيره موضعه.
وقرأ الجمهور {ما أشهدتهم} بتاء المتكلم. وقرأ أبو جعفر وشيبة والسبختياني وعون العقيلي وابن مقسم: ما أشهدناهم بنون العظمة، والظاهر عود ضمير المفعول في {أشهدتهم} على إبليس وذريته أي لم أشاورهم في {خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم} بل خلقتهم على ما أردت، ولهذا قال {وما كنت متخذ المضلين عضداً}. وقال الزمخشري: يعني إنكم اتخذتم شركاء لي في العبادة وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفي مشاركتهم في الإلهية بقوله: {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض} لا أعتضد بهم في خلقها {ولا خلق أنفسهم} أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله
{ولا تقتلوا أنفسكم} وما كنت متخذهم أعواناً فوضع {المضلين} موضع الضمير ذماً لهم بالإضلال فإذا لم يكونوا لي {عضداً} في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة انتهى. وقيل: يعود على الملائكة والمعنى أنه ما أشهدهم ذلك ولا استعان بهم في خلقها بل خلقتهم ليطيعوني ويعبدوني فكيف يعبدونهم. وقيل: يعود على الكفار. وقيل: على جميع الخلق. وقال ابن عطية: الضمير في {أشهدتهم} عائد على الكفار وعلى الناس بالجملة، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين والأطباء وسواهم من كل من يتخرص في هذه الأشياء، وقاله عبد الحق الصقلي وتأول هذا التأويل في هذه الآية وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين انتهى.
وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن وشيبة {وما كنت} بفتح التاء خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم. قال الزمخشري: والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم انتهى. والذي أقوله أن المعنى إخبار من الله عن نبيه وخطاب منه تعالى له في انتفاء كينونته متخذ عضد من المضلين، بل هو مذ كان ووجد عليه السلام في غاية التبرّي منهم والبعد عنهم لتعلم أمته أنه لم يزل محفوظاً من أول نشأته لم يعتضد بمضل ولا مال إليه صلى الله عليه وسلم. وقرأ عليّ بن أبي طالب متخذاً المضلين أعمل اسم الفاعل. وقرأ عيسى {عضداً} بسكون الضاد خفف فعلاً كما قالوا: رجل وسبع في رجل وسبع وهي لغة عن تميم، وعنه أيضاً بفتحتين. وقرأ شيبة وأبو عمر وفي رواية هارون وخارجة والخفاف {عضداً} بضمتين، وعن الحسن {عضداً} بفتحتين وعنه أيضاً بضمتين. وقرأ الضحاك {عضداً} بكسر العين وفتح الضاد.
وقرأ الجمهور {ويوم يقول} بالياء أي الله. وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم: نقول بنون العظمة أي للذين أشركوا به في الدنيا {نادوا شركائي} وليس المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شركاؤه ولكن ذلك على زعمكم، والإضافة تكون بأدنى ملابسة ومفعولاً {زعمتم} محذوفان لدلالة المعنى عليهما إذ التقدير زعمتموهم شركائي والنداء بمعنى الاستغاثة، أي استغيثوا بشركائكم والمراد نادوهم لدفع العذاب عنكم أو للشفاعة لكم، والظاهر أن الضمير في {بينهم} عائد على الداعين والمدعوين وهم المشركون والشركاء. وقيل: يعود على أهل الهدى وأهل الضلالة، والظاهر وقوع الدعاء حقيقة وانتفاء الإجابة. وقيل: يحتمل أن يكون استعارة كأن فكرة الكافر ونظره في أن تلك الجمادات لا تغني شيئاً ولا تنفع هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة.
وقرأ الجمهور {شركائي} ممدوداً مضافاً للياء، وابن كثير وأهل مكة مقصوراً مضافاً لها أيضاً، والظاهر انتصاب {بينهم} على الظرف. وقال الفراء: البين هنا الوصل أي {وجعلنا} نواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة، فعلى هذا يكون مفعولاً أول لجعلنا، وعلى الظرف يكون في موضع المفعول الثاني.
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: الموبق المهلك. وقال الزجاج: جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم. وقال عبد الله بن عمر وأنس ومجاهد: واد في جهنم يجري بدم وصديد. وقال الحسن: عداوة. وقال الربيع بن أنس: إنه المجلس. وقال أبو عبيدة: الموعد.
{ورأى المجرمون النار} هي رؤية عين أي عاينوها، والظن هنا قيل: على موضوعه من كونه ترجيح أحد الجانبين. وكونهم لم يجزموا بدخولها رجاء وطمعاً في رحمة الله. وقيل: معنى {فظنوا} أيقنوا قاله أكثر الناس، ومعنى {مواقعوها} مخالطوها واقعون فيها كقوله {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه} {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} وقال ابن عطية: أطلق الناس أن الظن هنا بمعنى التيقن، ولو قال بدل ظنوا أيقنوا لكان الكلام متسقاً على مبالغة فيه، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبداً في موضع يقين تام قد ناله الحسن بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق، لكنه لم يقع ذلك المظنون وإلاّ فمن يقع ويحس لا يكاد يوجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن.
وتأمل هذه الآية وتأمل قول دريد:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ***
وفي مصحف عبد الله ملاقوها مكان {مواقعوها} وقرأه كذلك الأعمش وابن غزوان عن طلحة، والأولى جعله تفسيراً لمخالفة سواد المصحف. وعن علقمة أنه قرأ ملافوها بالفاء مشددة من لففت. وفي الحديث: «إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة» ومعنى {مصرفاً} معدلاً ومراعاً. ومنه قول أبي كبير الهذلي:
أزهير هل عن شيبة من مصرف *** أم لا خلود لباذل متكلف
وأجاز أبو معاذ {مصرفاً} بفتح الراء وهي قراءة زيد بن عليّ جعله مصدراً كالمضرب لأن مضارعه يصرف على يفعل كيصرف.


أدحض الحق أرهقه قاله ثعلب، وأصله من إدحاض القدم وهو إزلاقها قال الشاعر:
وردت ويجىّ اليشكري حذاره *** وحاد كما حاد البعير عن الدّحض
وقال آخر:
أبا منذر رمت الوفاء وهبته *** وحدت كما حاد البعير المدحض
والدحض الطين الذي يزهق فيه. الموئل قال الفراء: المنجي يقال والت نفس فلان نجت. وقال الأعشى:
وقد أخالس رب البيت غفلته *** وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو. وقال ابن قتيبة: الملجأ يقال: وأل فلان إلى كذا ألجأ، يئل وألاً وؤولاً.
{ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلاّ أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدّمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجَّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً}.
تقدّم تفسير نظير صدر هذه الآية: و{شيء} هنا مفرد معناه الجمع أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال إن فصلتها واحداً بعد واحد. {جدلاً} خصومة ومماراة يعني إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء ونحوه، فإذا هو خصيم مبين. وانتصب {جدلاً} على التمييز. قيل: {الإنسان} هنا النضر بن الحارث. وقيل: ابن الزبعري. وقيل: أبيّ بن خلف، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم فذره، فقال: أيقدر الله على إعادة هذا؟ قاله ابن السائب. قيل: كل من يعقل من ملك وجنّ يجادل و{الإنسان أكثر} هذه الأشياء {جدلاً} انتهى.
وكثيراً ما يُذكر الإنسان في معرض الذمّ وقد تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} حين عاتب علياً كرم الله وجهه على النوم عن صلاة الليل، فقال له عليّ: إنما نفسي بيد الله، فاستعمل {الإنسان} على العموم. وفي قوله {وما منع الناس} الآية تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب، وإنما امتنعوا هم مع اعتقاد أنهم مصيبون لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا فكان حالهم يقتضي التأسف عليهم. و{الناس} يراد به كفار عصر الرسول صلى الله عليه وسلم الذين تولوا دفع الشريعة وتكذبيها قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: إن الأولى نصب والثانية رفع وقبلهما مضاف محذوف تقديره {وما منع الناس} الإيمان {إلا} انتظار {أن تأتيهم سنّة الأولين} وهي الإهلاك {أو} انتظار {أن يأتيهم العذاب} يعني عذاب الآخرة انتهى.
وهو مسترق من قول الزجاج. قال الزجاج: تقديره ما منعهم من الإيمان {إلاّ} طلب {أن تأتيهم سنّة الأولين}. وقال الواحدي: المعنى ما منعهم إلاّ أني قد قدّرت عليهم العذاب، وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأُحد من المشركين، وهذا القول نحو من قول من قال التقدير {وما منع الناس أن يؤمنوا} إلاّ ما سبق في علمنا وقضائنا أن يجري عليهم {سنّة الأولين} من عذاب الاستئصال من المسخ والصيحة والخسف والغرق وعذاب الظلة ونحو ذلك، وأراد بالأولين من أهلك من الأمم السالفة. وقال صاحب الغنيان: إلاّ إرادة أو انتظار أن تأتيهم سنتنا في الأولين، ومن قدر المضاف هذا أو الطلب فإنما ذلك لاعتقادهم عدم صدق الأنبياء فيما وعدوا به من العذاب كما قال حكاية عن بعضهم {إن كان هذا هو الحق من عندك} وقيل: {ما} هنا استفهامية لا نافية، والتقدير وأي شيء {منع الناس} أن {يؤمنوا} و{الهدى} الرسول أو القرآن قولان.
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش وابن أبي ليلى وخلف وأيوب وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير والكوفيون بضم القاف والباء، فاحتمل أن يكون بمعنى {قبلاً} لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، وأن يكون جمع قبيل أي يجيئهم العذاب أنواعاً وألواناً. وقرأ باقي السبعة ومجاهد وعيسى بن عمر {قبلاً} بكسر القاف وفتح الباء ومعناه عياناً. وقرأ أبو رجاء والحسن أيضاً بضم القاف وسكون الباء وهو تخفيف قبل على لغة تميم. وذكر ابن قتيبة أنه قرئ بفتحتين وحكاه الزمخشري وقال مستقبلاً. وقرأ أُبيّ بن كعب وابن غزوان عن طلحة قبيلاً بفتح القاف وباء مكسورة بعدها ياء على وزن فعيل.
{وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين} أي بالنعيم المقيم لمن آمن {ومنذرين} أي بالعذاب الأليم لمن كفر لا ليجادلوا ولا ليتمنى عليهم الاقتراحات {ليدحضوا} ليزيلوا {واتخذوا آياتي} يجمع آيات القرآن وعلامات الرسول قولاً وفعلاً {وما أنذروا} من عذاب الآخرة، واحتملت {ما} أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف أي {وما} أنذروه وأن تكون مصدرية أي وإنذارهم فلا تحتاج إلى عائد على الأصح {هزواً} أي سخرية واستخفافاً لقولهم أساطير الأولين. لو شئنا لقلنا مثل هذا وجداً لهم للرسل صلى الله عليه وسلم قولهم و{ما أنتم إلاّ بشر مثلنا} ولو شاء الله لأنزل ملائكة وما أشبه ذلك، والآيات المضاف إلى الرب هو القرآن ولذلك عاد الضمير مفرداً في قوله {أن يفقهوه} وإعراضه عنها كونه لا يتذكر حين ذكر ولم يتدبر ونسي عاقبة ما قدّمت يداه من الكفر والمعاصي غير مفكر فيها ولا ناظر في أن المحسن والمسيء يجزيان بما عملا.
وتقدم تفسير نظير قوله {إنّا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً} ثم أخبر تعالى أن هؤلاء لا يهتدون أبداً وهذا من العام والمراد به الخصوص، وهو من طبع الله على قلبه وقضى عليه بالموافاة على الكفر إذ قد اهتدى كثير من الكفرة وآمنوا، ويحتمل أن يكون ذلك حكماً على الجميع أي {وإن تدعهم} أي {إلى الهدى} جميعاً {فلن يهتدوا} جميعاً {أبداً} وحمل أولاً على لفظ من فأفرد ثم على المعنى في قوله {إنّا جعلنا على قلوبهم} فجمع وجعلوا دعوة الرسول إلى الهدى وهي التي تكون سبباً لوجود الاهتداء، سبباً لانتفاء هدايتهم، وهذا الشرط كأنه جواب للرسول عن تقدير قوله مالي لا أدعوهم إلى الهدى حرصاً منه عليه الصلاة والسلام على حصول إيمانهم، فقيل: {وإن تدعهم} وتقييده بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم.
و {الغفور} صفة مبالغة و{ذو الرحمة} أي الموصوف بالرحمة، ثم ذكر دليل رحمته وهو كونه تعالى {لا يؤاخذهم} عاجلاً بل يمهلهم مع إفراطهم في الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والموعد أجل الموت، أو عذاب الآخرة، أو يوم بدر، أو يوم أحد، وأيام النصر أو العذاب إما في الدنيا وإما في الآخرة أقوال.
والموئل قال مجاهد: المحرز. وقال الضحاك: المخلص والضمير في {من دونه} عائد على الموعد. وقرأ الزهري موّلاً بتشديد الواو من غير همز ولا ياء. وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه مولاً بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء. وقرأ الجمهور بسكون الواو وهمزة بعدها مكسورة، وأشارة تعالى بقوله {وتلك القرى} إلى القرى المجاورة أهل مكة والعرب كقرى ثمود وقوم لوط وغيرهم، ليعتبروا بما جرى عليهم وليحذروا ما يحل بهم كما حل بتلك القرى. {وتلك} مبتدأ و{القرى} صفة أو عطف بيان والخبر {أهلكناهم} ويجوز أن تكون {القرى} الخبر و{أهلكناهم} جملة حالية كقوله {فتلك بيوتهم خاوية} ويجوز أن تكون {تلك} منصوباً بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا {تلك القرى أهلكناهم} و{تلك القرى} على إضمار مضاف أي وأصحاب تلك القرى، ولذلك عاد الضمير على ذلك المضمر في قوله {أهلكناهم}.
وقوله {لما ظلموا} إشعار بعلَّة الإهلاك وهي الظلم، وبهذا استدل الأستاذ أبو الحسن بن عصفور على حرفية {لما} وأنها ليست بمعنى حين لأن الظرف لا دلالة فيه على العلية. وفي قوله {لما ظلموا} تحذير من الظلم إذ نتيجته الإهلاك وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً، وهو الموعد واحتمل أن تكون مصدراً أو زماناً. وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام، واحتمل أن يكون مصدراً مضافاً إلى المفعول وأن يكون زماناً. وقرأ حفص وهارون عن أبي بكر بفتحتين وهو زمان الهلاك. وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام مصدر هلك يهلك وهو مضاف للفاعل. وقيل: هلك يكون لازماً ومتعدياً فعلى تعديته يكون مضافاً للمفعول، وأنشد أبو عليّ في ذلك:
ومهمه هالك من تعرجاً ***
ولا يتعين ما قاله أبو عليّ في هذا البيت، بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكاً فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة أصله هالك من تعرجاً. فمن فاعل ثم أضمر في هالك ضمير مهمه، وانتصب {من} على التشبيه بالمفعول ثم أضاف من نصب، وقد اختلف في الموصول هل يكون من باب الصفة المشبهة؟ والصحيح جواز ذلك وقد ثبت في أشعار العرب. قال الشاعر وهو عمر بن أبي ربيعة:
أسيلات أبدان دقاق خصورها *** وثيرات ما التفت عليها الملاحف
وقال آخر:
فعجتها قبل الأخيار منزلة *** والطيبي كل ما التاثت به الأُزُر


برح: زال مضارع يزول، ومضارع يزال فتكون من أخوات كان الناقصة. الحِقب: السنون واحدها حقبة. قال الشاعر:
فإن تنأ عنها حقبة لاتلاقها *** فإنك مما أحدثت بالمحرب
وقال الفراء: الحقب سنة، ويأتي قول أهل التفسير فيه. السرب: المسلك في جوف الأرض. النصب: التعب والمشقة. الصخرة معروفة وهي حجر كبير. {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً قال إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً}.
{موسى} المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران عليه السلام، ولم يذكر الله في كتابه موسى غيره، ومن ذهب إلى أنه غيره وهو موسى بن ميشا بن يوسف، أو موسى بن افراثيم بن يوسف فقول لا يصح، بل الثابت في الحديث الصحيح وفي التواريخ أنه موسى بن عمر نبيّ إسرائيل، والمرسل هو وأخوه هارون إلى فرعون، وفتاه هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام، والفتى الشاب ولما كان الخدم أكثر ما يكونون فتياناً قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك. ففي الحديث: «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي» {لفتاه} لأنه كان يخدمه ويتبعه. وقيل: كان يأخذ منه العلم. ويقال: إن يوشع كان ابن اخت موسى عليه السلام وسبب هذه القصة أن موسى عليه السلام جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ {مجمع البحرين} أسير أي لا أزال. قال ابن عطية: وإنما قال هذه المقالة وهو سائر. ومن هذا قول الفرزدق:
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم *** ببطحاء ذي قار عباب اللطائم
انتهى. وهذا الذي ذكره فيه حذف خبر {لا أبرح} وهي من أخوات كان، ونص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل على حذفه إلاّ ما جاء في الشعر من قوله:
لهفي عليك للهفة من خائف *** يبغي جوارك حين ليس مجير
أي حين ليس في الدنيا. وقال الزمخشري: فإن قلت: {لا أبرح} إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة على السفر، وإن كان بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلت: هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال والكلام معاً يدلان عليه، أما الحال فلأنها كانت حال سفر، وأما الكلام فلأن قوله {حتى أبلغ مجمع البحرين} غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له، فلا بد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري {حتى أبلغ} على أن {حتى أبلغ} هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف انتهى. وهما وجهان خلطهما الزمخشري: أما الأول: فجعل الفعل مسنداً إلى المتكلم لفظاً وتقديراً وجعل الخبر محذوفاً كما قدره ابن عطية و{حتى أبلغ} فضلة متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له. والوجه الثاني جعل {لا أبرح} مسنداً من حيث اللفظ إلى المتكلم، ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعله {لا أبرح} هو {حتى أبلغ} فهو عمدة إذ أصله خبر للمبتدأ لأنه خبر {أبرح}.
وقال الزمخشري. أيضاً: ويجوز أن يكون المعنى {لا أبرح} ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه {حتى أبلغ} كما تقول لا أبرح المكان انتهى. يعني إن برح يكون بمعنى فارق فيتعدى إذ ذاك إلى مفعول ويحتاج هذا إلى صحة نقل، وذكر الطبري عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه بمصر، فلما استقرت الحال خطب يوماً فذكَّر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل، ثم ذكر ما هو عليه من أنه لا يعلم أحداً أعلم منه.
قال ابن عطية: وما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلاّ في هذا الكلام، وما أراه يصح بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين، وهذا المروي عن ابن عباس ذكره الزمخشري فقال: روي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله، وقال: إن الله اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له: قد علمنا هذا فأي الناس أعلم؟ قال: أنا فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إلى الله فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر، كان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى، وذكر أيضاً في أسئلة موسى أنه قال: إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه، قال: أعلم منك الخضر انتهى.
وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من أنه قيل له هل أحد أعلم منك؟ قال: لا.
و {مجمع البحرين} قال مجاهد وقتادة: هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم. قال ابن عطية: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجتمع البحرين على هذا القول. وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي: هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا. وعن أبيّ بإفريقية. وقيل: هو بحر الأندلس والقرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء. وقيل: {مجمع البحرين} بحر ملح وبحر عذب فيكون الخضر على هذا عند موقع نهر عظيم في البحر. وقالت فرقة: البحران كناية عن موسى والخضر لأنهما بحرا علم. وهذا شبيه بتفسير الباطنية وغلاة الصوفية، والأحاديث تدل على أنهما بحرا ماء.
وقال الزمخشري: من بدع التفاسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما كانا بحرين في العلم انتهى. وقيل: بحر القلزم. وقيل: بحر الأزرق. وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار {مجمع} بكسر الميم الثانية والنضر عن ابن مسلم في كلا الحرفين وهو شاذ، وقياسه من يفعل فتح الميم كقراءة الجمهور. والظاهر أن {مجمع البحرين} هو اسم مكان جمع البحرين. وقيل: مصدر.
قال ابن عباس: الحقب الدهر. وقال عبد الله بن عمرو وأبو هريرة: ثمانون سنة. وقال الحسن: سبعون. وقيل: سنة بلغة قريش ذكره الفراء. وقيل: وقت غير محدود قاله أبو عبيدة. والظاهر أن قوله {أو أمضي} معطوف على {أبلغ} فغيا بأحد الأمرين إما ببلوغه المجمع وإما بمضيه {حقباً}. وقيل: هي تغيية لقوله {لا أبرح} كقولك لا أفارقك أو تقضيني حقي، فالمعنى {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين} إلى أن أمضي زماناً أتيقن معه فوات مجمع البحرين. وقرأ الضحاك {حقباً} بإسكان القاف والجمهور بضمها.
{فلما بلغا مجمع بينهما} ثم جملة محذوفة التقدير فسار {فلما بلغا} أي موسى وفتاه {مجمع بينهما} أي بين البحرين {نسيا حوتهما} وكان من أمر الحوت وقصته أن موسى عليه السلام حين أوحي إليه أنَّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب فيكف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فنام موسى واضطرب الحوت في المكتمل فخرج منه فسقط {في البحر سرباً} وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق. قيل: وكان الحوت مالحاً. وقيل: مشوياً. وقيل: طرياً. وقيل: جمع يوشع الحوت والخبز في مكتل فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة ونام موسى، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت.
وروي أنهما أكلا منها. وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء، والظاهر نسبة النسيان إلى موسى وفتاه.
وقيل: كان النسيان من أحدهما وهو فتى موسى نسي أن يعلم موسى أمر الحوت إذ كان نائماً، وقد أحس يوشع بخروجه من المكتل إلى البحر ورآه قد اتخذ السرب فأشفق أن يوقظ موسى. وقال أؤخر إلى أن يستيقظ ثم نسي أن يعلمه حتى ارتحلا و{جاوزا} وقد يسند الشيء إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحد منهم. وقيل: هو على حذف مضاف أي نسي أحدهما. وقال الزمخشري: أي {نسيا} تفقد أمره وما يكون منه مما جعل إمارة على الظفر بالطلبة. وقيل: نسي يوشع أن يقدمه، ونسي موسى أن يأمر فيه بشيء انتهى. وشبه بالسرب مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده بل بقي كالطاق، هذا الذي ورد في الحديث. وقال الجمهور: بقي موضع سلوكه فارغاً. وقال قتادة: ماء جامداً وعن ابن عباس: حجراً صلداً. وقال ابن زيد: إنما اتخذ سبيله سرباً في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة كأنه يعني بقوله {سرباً} تصرفاً وجولاناً من قولهم: فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء. ومنه قوله تعالى {وسارب بالنهار} أي متصرف. وقال قوم: اتخذ {سرباً} في التراب من المكتمل، وصادف في طريقه حجراً فنقبه. والظاهر أن السرب كان في الماء ولا يفسر إلاّ بما ورد في الحديث الصحيح أن الماء صار عليه كالطاق وهو معجزة لموسى عليه السلام أو الخضر إن قلنا أنه نبي وإلاّ تكن كرامة.
وقيل: عاد موضع سلوك الحوت حجراً طريقاً وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفضى به ذلك إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر {فلما جاوزا} أي مجمع البحرين. وقال الزمخشري: الموعد وهو الصخرة. قيل: سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوزا لموعد ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك فتذكر الحوت وطلبه. وقوله {من سفرنا} هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة. وقرأ الجمهور {نصباً} بفتحتين وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمتين. قال صاحب اللوامح وهي إحدى اللغات الأربع التي فيها.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف نسي يوشع ذلك ومثله لا ينسى لكونه إمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها ولكونه معجزتين بينتين وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها وقيل: ما كانت إلاّ شق سمكة وقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب، ثم كيف استمر به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت قلت: قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب حتى اعتراه النسيان، وانضم إلى ذلك أنه ضري بمشاهدة أمثاله عند موسى من العجائب، واستأنس بأخواته فأعان الإلف على قلة الإهتمام انتهى.
قال أبو بكر غالب بن عطية والداني عبد الحق المفسر: سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظة: مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم.
وقال الزمخشري: {أرأيت} بمعنى أخبرني فإن قلت: فما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من {أرأيت} و{إذ أوينا} و{فإني نسيت الحوت} لا متعلق له؟ قلت: لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك، كأنه قال: {أرأيت} ما دهاني {إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت} فحذف ذلك انتهى. وكون أرأيتك بمعنى أخبرني ذكره سيبويه: وقد أمعّنا الكلام في ذلك في سورة الأنعام وفي شرحنا لكتاب التسهيل.
وأما ما يختص بأرأيت في هذا الموضع فقال أبو الحسن الأخفش: إن العرب أخرجتها عن معناها بالكلية فقالوا: أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة إذا كانت بمعنى أخبرني، وإذا كانت بمعنى أبصرت لم تحذف همزتها قال: وشذت أيضاً فألزمتها الخطاب على هذا المعنى، ولا تقول فيها أبداً أراني زيد عمراً ما صنع، وتقول هذا على معنى أعلم. وشذت أيضاً فأخرجتها عن موضعها بالكلية بدليل دخول الفاء ألا ترى قوله {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت} فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت لمعنى إما أو تنبه، والمعنى أما {إذ أوينا إلى الصخرة} فالأمر كذا، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام، وقد يخرج لمعنى أما ويكون أبداً بعدها الشرط وظرف الزمان فقوله {فإني نسيت الحوت} معناه أما {إذ أوينا} {فإني نسيت الحوت} أو تنبه {إذ أوينا} وليست الفاء إلاّ جواباً لأرأيت، لأن إذ لا يصح أن يجازى بها إلاّ مقرونة بما بلا خلاف انتهى كلام الأخفش. وفيه إن {أرأيت} إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه، وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام وهذان مفقودان في تقدير الزمخشري {أرأيت} هنا بمعنى أخبرني، ومعنى {نسيت الحوت} نسيت ذكر ما جرى فيه لك.
وفي قوله {وما أنسانيه إلاّ الشيطان} حسن أدب سبب النسيان إلى المتسبب فيه بوسوسته و{أن أذكره} بدل اشتمال من الضمير العائد على الحوت، والظاهر أن الضمير في {واتخذ سبيله في البحر عجباً} عائد على الحوت كما عاد في قوله {فاتخذ سبيله في البحر سرباً} وهو من كلام يوشع.
وقيل: الضمير عائد على موسى أي اتخذ موسى. ومعنى {عجباً} أي تعجب من ذلك أو اتخاذاً {عجباً} وهو أن أثره بقي إلى حيث سار. وقدره الزمخشري {سبيله} {عجباً} وهو كونه شبيه السرب قال: أو قال {عجباً} في آخر كلام تعجباً من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها، أو مما رأى من المعجزتين وقوله: {وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقيل: إن {عجباً} حكاية لتعجب موسى وليس بذلك انتهى.
وقال ابن عطية: {واتخذ في سبيله في البحر عجباً} يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيلاً عجباً للناس، ويحتمل أن يكون قوله {واتخذ سبيله في البحر} تمام الخبر ثم استأنف التعجب فقال من قبل نفسه {عجباً} لهذا الأمر، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه ثم حيي بعد ذلك.
قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته أتيت به فإذا هو شق حوت وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيّ. قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي فيه شيّ عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكة، ويحتمل أن يكون {واتخذ سبيله} الآية إخباراً من الله تعالى وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر {عجباً} أي تعجب منه، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله {عجباً} للناس انتهى. وقرأ حفص: {وما أنسانيه} بضم الهاء وفي الفتح عليه الله وذلك في الوصل وأمال الكسائي فتحة السين، وفي مصحف عبد الله وقراءته {أن أذكره} {إلاّ الشيطان}. وقرأ أبو حيوة: واتخاذ سبيله عطف على المصدر على ضمير المفعول في {أذكره} والإشارة بقوله ذلك إلى أمر الحوت وفقده واتخاذه سبيلاً في البحر لأنه إمارة الظفر بالطلبة من لقاء ذلك العبد الصالح و{ما} موصولة والعائد محذوف أي نبغيه. وقرئ نبغ ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع، وأما الوقف فالأكثر فيه طرح الياء اتباعاً لرسم المصحف، وأثبتها في الحالين ابن كثير.
{فارتدا} رجعاً على أدراجهما من حيث جاءا. {قصصاً} أي يقصان الأثر {قصصاً} فانتصب على المصدرية بإضمار يقصان، أو يكون في موضع الحال أي مقتصين فينصب بقوله {فارتدا} {فوجدا} أي موسى والفتى {عبداً من عبادنا} هذه إضافة تشريف واختصاص، وجداه عند الصخرة التي فقد الحوت عندها وهو مسجى في ثوبه مستلقياً على الأرض فقال: السلام عليك فرفع رأسه، وقال: أنى بأرضك السلام ثم قال له، من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال له: ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا؟ قال: بلى، ولكن أحببت لقاءك وأن أتعلم منك، قال له: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا.
والجمهور على أنه الخضر وخالف من لا يعتد بخلافه فزعم أنه عالم آخر. وقيل: اليسع. وقيل: الياس. وقيل: خضرون ابن قابيل بن آدم عليه السلام. قيل: واسم الخضر بليا بن ملكان، والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن قد أوحيت إليه، وعلم موسى الأحكام والفتيا بالظاهر. وروي أنه وجد قاعداً على ثبج البحر. وفي الحديث سمي خضراً لأنه جلس على فروة بالية فاهتزت تحته خضراء. وقيل: كان إذا صلى اخضّر ما حوله. وقيل: جلس على فروة بيضاء وهي الأرض المرتفعة. وقيل: الصلبة واهتزت تحته خضراء. وقيل: كانت أمه رومية وأبوه فارسي. وقيل: كان ابن ملك من الملوك أراد أبوه أن يستخلفه من بعده فلم يقبل منه ولحق بجزائر البحر فطلبه أبوه فلم يقدر عليه. والجمهور على أنه مات.
وقال شرف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي: أما خضر موسى بن عمران فليس بحي لأنه لو كان حياً للزمه المجيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتبّاعه. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو كان موسى وعيسى حيين لم يسعهما إلاّ اتباعي» انتهى هكذا ورد لحديث ومذهب المسلمين أن عيسى حي وأنه ينزل من السماء، ولعل الحديث: «لو كان موسى حياً لم يسعه إلاّ اتباعي». والرحمة التي آتاه الله إياها هي الوحي والنبوة. وقيل: الرزق. {وعلمناه من لدنّا علماً} أي من عندنا أي مما يختص بنا من العلم وهو الإخبار عن الغيوب. وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو {من لدنّا} بتخفيف النون وهي لغة في لدن وهي الأصل.
قيل: وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح بادعاء هذا العلم ويسمونه العلم اللدني، وأنه يلقى في روع الصالح منهم شيء من ذلك حتى يخبر بأن من كان من أصحابه هو من أهل الجنة على سبيل القطع، وأن بعضهم يرى الخضر. وكان قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد يخبر عن شيخ له أنه رأى الخضر وحدثه، فقيل له: من أعلمه أنه الخضر؟ ومن أين عرف ذلك؟ فسكت. وبعضهم يزعم أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر، وسمعنا الحديث عن شيخ يقال له عبد الواحد العباسي الحنبلي وكان أصحابه الحنابلة يعتقدون فيه أنه يجتمع بالخضر.
{قال له موسى} في الكلام محذوف تقديره فلما التقيا وتراجعا الكلام وهو الذي ورد في الحديث الصحيح {قال له موسى هل أتبعك} وفي هذا دليل على التواضع للعالم، وفي هذه القصة دليل على الحث على الرحلة في طلب العلم وعلى حسن التلطف والاستنزال والأدب في طلب العلم.
بقوله {هل أتبعك} وفيه المسافرة مع العالم لاقتباس فوائده، والمعنى هل يخف عليك ويتفق لك وانتصب {رشداً} على أنه مفعول ثانٍ لقوله {تعلمني} أو على أنه مصدر في موضع الحال، وذو الحال الضمير في {أتبعك}.
وقال الزمخشري: {علماً} ذا رشد أرشد به في ديني، قال: فإن قلت: أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه كما قيل موسى بن ميشا لا موسى بن عمران لأن النبيّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين؟ قلت: لا غضاضة بالنبيّ في أخذ العلم من نبيّ قبله، وإنما يغض منه أن يأخذ ممن دونه.
وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس: إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى، وأن موسى هو موسى بن ميشا فقال: كذب عدو الله انتهى.
وقرأ الحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي {رشداً} بفتحتين وهي قراءة أبي عمرو من السبعة. وقرأ باقي السبعة بضم الراء وإسكان الشين، ونفى الخضر استطاعة الصبر معه على سبيل التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم، وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها ينكرها الرجل الصالح فكيف النبيّ فلا يتمالك أن يشمئز لذلك، ويبادر بالإنكار {وكيف تصبر} أي إن صبرك على ما لا خبرة لك به مستبعد، وفيه إبداء عذر له حيث لا يمكنه الصبر لما يرى من منافاة ما هو عليه من شريعته. وانتصب {خبراً} على التمييز أي مما لم يحط به خبرك فهو منقول من الفاعل أو على أنه مصدر على غير الصدر لأن معنى {على ما لم تحط به} لم تخبره. وقرأ الحسن وابن هرمز {خبراً} بضم الباء.
{قال ستجدني إن شاء الله صابراً} وعده بوجدانه {صابراً} وقرن ذلك بمشيئة الله علماً منه بشدة الأمر وصعوبته، إذ لا يصبر إلاّ على ما ينافي ما هو عليه إذ رآه {ولا أعصي} يحتمل أن يكون معطوفاً على {صابراً} أي {صابراً} وغير عاص فيكون في موضع نصب عطف الفعل على الاسم إذا كان في معناه كقوله {صافات ويقبضن} أي وقابضات، ويجوز أن يكون معطوفاً على {ستجدني} فلا محل له من الإعراب ولا يكون مقيداً بالمشيئة لفظاً.
وقال القشيري: وعد موسى من نفسه بشيئين: بالصبر وقرنه بالاستثناء بالمشيئة فصبر حين وجد على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل، وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالاستثناء فعصاه حيث قال له {فلا تسألني} فكان يسأله فما قرن بالاستثناء لم يخالف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى. وهذا منه على تقدير أن يكون {ولا أعصي} معطوفاً على {ستجدني} فلم يندرج تحت المشيئة.
{قال فان اتبعتني} أي إذا رأيت مني شيئاً خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك فلا تفاتحني بالسؤال حتى أكون أنا الفاتح عليك، وهذا من أدب المتعلم مع العالم المتبوع. وقرأنا نافع وابن عامر {فلا تسألني} وعن أبي جعفر بفتح السين واللام من غير همز مشددة النون وباقي السبعة بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون. قال أبو علي. كلهم بياء في الحالين انتهى. وعن ابن عامر في حذف الياء خلاف غريب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7